۵ آذر ۱۴۰۳ |۲۳ جمادی‌الاول ۱۴۴۶ | Nov 25, 2024
قبور أئمة البقيع

وكالة الحوزة - يوافق الخامس والعشرين من شهر محرم الحرام ذكرى استشهاد الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، فبمناسبة هذه الذكرى الأليمة نسلط الضوء على ظاهرة الدعاء والمناجاة في حياة هذا الإمام الهمام صلوات الله عليه.

وكالة أنباء الحوزة - قال تعالى: (قل ما يعبؤا بكم ربّي لولا دعاؤكم فقد كذّبتم فسوف يكون لزاماً)[1].
قال السيد ابن طاووس رضوان الله تعالى عليه في مقام بيان ما تفيده الآية المباركة: فلم يجعل لهم لولا الدعاء محلاًّ ولا مقاماً فقد صار مفهوم ذلك أنّ محل الإنسان ومنزلته عند الله جلّ جلاله على قدر دعائه وقيمته بقدر اهتمامه بمناجاته وندائه[2].
وفي ضوء هذه الحقيقة القرآنية نجد أنّ الإمام زين العابدين(عليه السلام) كان يدعو الله تعالى ويناجيه في كلّ آن وعلى كلّ حال، مجسّداً فقره المطلق إلى الله جلّ جلاله، وهو ما يستبطن قدر الإمام ومكانته باعتبار أنّ المقام عند الله تعالى على قدر دعائه ومناجاته أو على قدر إدراكه لفاقته وحاجته إلى الله عزوجلّ، والعمل بما يقتضيه هذا الإدراك من انقطاع تامّ إلى الله تعالى والإعراض عن كلّ ما سواه.
ونقتطف هنا بعض النصوص الشريفة من أدعية ومناجات الإمام(عليه السلام) التي تبيّن ذروة حالات اليقين والغنى التي يمكن أن يصلها الإنسان إذا رسّخ في عقله وقلبه حقيقة (أن لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله تعالى) فلا يتعلّق قلبه بغيره سبحانه، ولا يرجو شيئاً من سواه تعالى، ولا يحبّ شيئاً غيره ويعمر أوقاته كلّها بذكره تعالى والعمل بطاعته :
قال(عليه السلام): «اللهمّ صلّ على محمّد وآله، واجعل سلامة قلوبنا في ذكر عظمتك، وفراغ أبداننا في شكر نعمتك، وانطلاق ألسنتنا في وصف منّتك، اللهمّ صلّ على محمّد وآله، واجعلنا من دعاتك الداعين إليك، وهداتك الدالّين عليك، ومن خاصّتك الخاصّين لديك يا أرحم الرحمين»[3].
إنّه الانقطاع التامّ والكامل فكراً وذكراً وسلوكاً وخُلقاً لله جلّ جلاله.
وقال(عليه السلام) مناجياً الله جلّ جلاله: «كيف أرجو غيرك والخير كله بيدك؟! وكيف اُؤمّل سواك والخلق والأمر لك؟! أأقطع رجائي منك وقد أوليتني ما لم أسأله من فضلك أم تفقرني إلى مثلي وأنا اعتصم بحبلك؟! يا من سعد برحمته القاصدون، ولم يشق بنقمته المستغفرون، كيف أنساك ولم تزل ذاكري؟! وكيف ألهو عنك وأنت مراقبي؟!»[4].
لقد انقطع(عليه السلام) إلى الله عزوجلّ كأعظم ما يكون الإنقطاع، فلم يأمل في جميع اُموره غيره معتقداً بأنّ الأمل بما في يد غيره سراب.
وناجى ربّه عزوجل بقوله(عليه السلام): «إلهي أذهلني عن إقامة شكرك تتابع طولك[5]، وأعجزني عن إحصاء ثنائك فيض فضلك، وشغلني عن ذكر محامدك ترادف[6]عوائدك[7]، وأعياني عن نشر عوارفك توالي أياديك.
إلهي تصاغر عند تعاظم آلائك شكري، وتضاءل في جنب إكرامك إيّاي ثنائي ونشري[8].
جلّلتني[9] نعمك من أنوار الإيمان حللاً، وضربت عليّ لطائف برّك من العزّ كللاً[10]، وقلّدتني مننك قلائد لا تحلّ، وطوّقتني أطواقاً لا تفلّ[11]، فآلاؤك جمّة ضعف لساني عن إحصائها، ونعماؤك كثيرة قصر فهمي عن ادراكها فضلاً عن استقصائها، فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إيّاك يفتقر إلى شكر؟! فكلّما قلت: لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول: لك الحمد...»[12].
وهكذا يعلّمنا الإمام(عليه السلام) كيف نشكر الله تعالى على ما أولانا من جزيل النعم، وأنّ الانسان مهما بالغ في شكره فإنّه عاجز وقاصر عن أداء الشكر.
وقال(عليه السلام): «اللهمّ احملنا في سفن نجاتك، ومتّعنا بلذيذ مناجاتك، وأوردنا حياض حبّك، وأذقنا حلاوة ودّك وقربك، واجعل جهادنا فيك، وهمّنا في طاعتك، وأخلص نيّاتنا في معاملتك، فإنّا بك ولك ولا وسيلة لنا إليك إلاّ أنت...»[13].
وهكذا طلب(عليه السلام) من الله تعالى أن يخلص نيّته في معاملته ويبلغه أعزّ أمانيه وهي ابتغاء رضوانه جلّ جلاله.
وقال(عليه السلام): «... إلهي فَاسْلُك بنا سُبُلَ الوصول إليك، وسيّرنا في أقرب الطرق للوفود عليك، قرّب علينا البعيد، وسهّل علينا العسير الشديد، وألحقنا بعبادك الذين هم بالبدار[14] إليك يسارعون، وبابك على الدوام يطرقون، وإيّاك في الليل والنهار يعبدون، وهم من هيبتك مشفقون، الذين صفّيت لهم المشارب، وبلّغتهم الرغائب، وأنجحت لهم المطالب، وقضيت لهم من فضلك المآرب[15]، وملأت لهم ضمائرهم من حبّك، وروّيتهم من صافي شربك، فبك إلى لذيذ مناجاتك وصلوا، ومنك أقصى مقاصدهم حصّلوا.
فأنت لا غيرك مرادي، ولك لا لسواك سهري وسهادي، ولقاؤك قرّة عيني، ووصلك مُنى نفسي، وإليك شوقي، وفي محبّتك ولهي[16]، وإلى هواك صبابتي[17]، ورضاك بغيتي، ورؤيتك حاجتي، وجوارك طلبي، وقربك غاية سؤلي، وفي مناجاتك رَوحي[18] وراحتي، وعندك دواء علّتي، وشفاء غلّتي[19]، وبرد لوعتي[20]، وكشف كربتي[21]... »[22].
وهكذا انقطع(عليه السلام) إلى الله جلّ جلاله، وتعلّقت به روحه وعواطفه، فلم يبصر غيره، ولا يجد شافياً لغلّتهِ سواه.
وقال(عليه السلام): «إلهي كسري لا يجبره إلاّ لطفك وحنانك، وفقري لا يغنيه إلاّ عطفك وإحسانك، وروعتي لا يسكِّنُها إلاّ أمانك، وذلّتي لا يعزّها إلاّ سلطانك، واُمنيّتي لا يبلّغنيها إلاّ فضلك، وخلّتي[23] لا يسدّها إلاّ طولك، وحاجتي لا يقضيها غيرك، وكربي لا يفرّجه سوى رحمتك، وضرّي لا يكشفه غير رأفتك، وغلّتي لا يبرّدها إلاّ وصلك، ولوعتي لا يطفيها إلاّ لقاؤك، وشوقي إليك لا يُبله إلاّ النظر إلى وجهك، وقراري لا يقرّ دون دنوّي منك»[24].
لقد أبدى الإمام(عليه السلام) فقره وفاقته إلى الله سبحانه، وقد هام(عليه السلام) بحبّ سيّده ومولاه خالق الكون وواهب الحياة، فعقد جميع آماله عليه ورجاه في قضاء جميع اُموره كأعظم ما يكون الرجاء.

تجلّيات العرفان الإلهي
وقال(عليه السلام): «إلهي ما ألذّ خواطر الإلهام بذكرك على القلوب، وما أحلى المسير إليك بالأوهام في مسالك الغيوب، وما أطيب طعم حبّك، وما أعذب شرب قربك! فأعذنا من طردك وإبعادك، واجعلنا من أخصّ عارفيك وأصلح عبادك وأصدق طائعيك وأخلص عبّادك»[25].
حقاً إنّ الإمام زين العابدين(عليه السلام) سيّد الموحّدين وزعيم العارفين بالله، ولم تكن عبادته تقليداً، وإنّما كانت ناشئة عن كمال معرفته بالله تعالى، وقد أعرب في النص المذكور عن كمال بغيته ألا وهو الإخلاص في عبادته سبحانه وتعالى.
وقال(عليه السلام): «إلهي فألهمنا ذكرك في الخلاء[26] والملاء[27] والليل والنّهار والإعلان والإسرار، وفي السرّاء والضرّاء، وآنِسنا بالذكر الخفيّ، واستعملنا بالعمل الزكيّ والسعي المرضىّ.
أنت المُسبّح في كلّ مكان، والمعبود في كلّ زمان، والموجود في كلّ أوان، والمدعوّ بكلّ لسان، والمعظّم في كلّ جنان[28]، وأستغفرك من كلّ لذّة بغير ذكرك، ومن كلّ راحة بغير اُنسك، ومن كلّ سرور بغير قربك، ومن كلّ شغل بغير طاعتك...»[29].
ويأخذنا الذهول حينما نقرأ هذا النصّ السجّادي الذي أعطانا فيه صورة واضحة متميّزة عن تضرّعه وتذلّله أمام الله سبحانه الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
إنّ المعرفة الحقيقية بأنّ الإنسان فقير إلى الله تعالى ـ كما جسّدته النصوص السابقة ـ تجعله يلتجئ إليه تعالى دائماً، ومن هنا نجد أنّ للإمام السجاد(عليه السلام) أدعية في أوقات وحالات متعدّدة بالإضافة إلى ما أوردناه، فله (عليه السلام) دعاء في الصلاة على محمّد وآله، وفي الصلاة على حملة العرش، وفي اللجوء إلى الله تعالى، وفي طلب الحوائج، وعند المرض، وفي مكارم الأخلاق، ولجيرانه، ولأوليائه، ولأهل الثغور، وفي الإستخارة، وفي التوبة، وإذا نظر إلى الهلال، وفي يوم عيد الفطر، وفي التذلّل، وعند الشدّة، وعند ذكر الموت، وفي الرهبة، وفي استكشاف الهموم.
وتجلّى من خلال الفصول السابقة أنّ سيرة الإمام زين العابدين(عليه السلام) جمعت له روح الثورة ضدّ الطغيان والحماس الجهادي إلى جانب المعرفة الإلهية الحقّة وشدّة التعبّد لله جلّ جلاله، فكانت سيرته(عليه السلام) توضيحاً للإجابة عن التساؤلات التي تثار عن إمكانية الجمع بين الدعاء والمناجاة من جهة والروح النهضوية والتضحوية من جهة اُخرى.
ولعلّ منشأ تلك التساؤلات هو توهّم البعض أنّ تفرّغهم للجهاد الأكبر ومجاهدة النفس والرياضات الشرعية والممارسات العبادية يغنيهم عن القتال والعمل الثوري والروح الجهادية باعتبارها جهاداً أصغر، إذ يغفلون عن حقيقة هي: أنّ القيام بالجهاد الأصغر هو أحد المحاور الأساسية للعمل بالجهاد الأكبر في إطاره الأوسع، وأنّ ترك الجهاد ناشئ في معظم الحالات عن هزيمة خفيّة في أحد ميادين الجهاد الأكبر، فالتلازم بين شدّة التقيّة وشدّة البأس أصيل، إذ يعبّر عن حقيقة شمولية الشريعة والدين الالهي الحنيف لكافة أبعاد حياة الإنسان الفردية والاجتماعية.
فالمعرفة التوحيدية والنهضة صفتان واضحتان جسّدهما أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، إذ لم تخل سيرتهم أبداً من اجتماعهما، ويتّضح ذلك من خلال التمعّن في مناجاتهم(عليهم السلام) وخطبهم في ميادين الحرب ومواقفهم ضد الحكّام المنحرفين، ونلحظ ذلك عند الإمام السجّاد(عليه السلام) في روحه الجهادية الناهضة التي لاحظناها من خلال تصريحاته في الشام وفي مجلس يزيد بن معاوية وهو الأسير المكبّل بالسلاسل، والردّ الحاسم منه في دار الإمارة بالكوفة على من هدّده بالقتل بقوله: «أبالقتل تهدّدنا وإنّ كرامتنا الشهادة»[30] إنّ هذه الروح هي التي نطقت بأدعية الصحيفة السجادية وبالمناجاة الخمس عشرة[31]، وفي هذا خير شاهد على اجتماع روح الحماسة وروح الدعاء والمناجاة والعبادة.
وهذه الحقيقة أدّت بدورها إلى أن تَحمل أدعية الإمام(عليه السلام) جوانب سياسية، وجهادية، واجتماعية، وأخلاقية، إلى جوار جوانبها العقائدية والمعرفية والعبادية، فكانت ذات أهداف تغييرية شاملة.
لقد كانت للأدعية السجادية أبعاد فكرية واسعة المدى بالنصوص الحاسمة لقضايا عقائدية إسلامية، كانت بحاجة إلى البتّ فيها بنص قاطع، بعد أن عصفت بالعقيدة تيارات الإلحاد كالتشبيه والجبر والإرجاء وغيرها ممّا كان الاُمويون وراء بعثها وإثارتها وترويجها، بهدف تحريف مسيرة التوحيد والعدل، تمهيداً للردّة عن الإسلام والرجوع إلى الجاهلية الاُولى.
وفي حالة القمع والإبادة ومطاردة كلّ المناضلين الأحرار وتتبّع آثارهم وخنق أصواتهم كان قرار الإمام زين العابدين(عليه السلام) باتّباع سياسة الدعاء أنجح وسيلة لبثّ الحقائق وتخليدها، وأأمَن طريقة وأبعدها من إثارة السلطة الغاشمة، وأقوى أداة اتّصال سرّية مكتوبة هادئة موثوقة[32].
__________________________________
[1] الفرقان (25) : 77.
[2] فلاح السائل للسيد ابن طاووس : 26، طبعة مكتب الإعلام الإسلامي للحوزة العلمية في قم المقدسة.
[3] الدعاء الخامس من الصحيفة الكاملة.
[4] مناجاة الراجين.
[5] طَولك: فضلك.
[6] ترادُف: تتابع.
[7] عوائدك: جمع عائدة وهي المعروف والمنفعة.
[8] نشري: يعني هنا بسط الحديث بالمدح.
[9] جَلّلتني: غطّتني، وغمرتني.
[10] كللاً: كلل جمع الكُلّة وهي بيت أو خيمة رقيقة تُضرب للمبيت تمنع من الذباب والبَعوض وإنّما ذلك لأرباب النعمة.
[11] لا تُفلّ: لا تثلم.
[12] مناجاة الشاكرين.
[13] مناجاة المطيعين.
[14] البدار: السباق.
[15] المآرب: جمع مأرب ومأربة أي الحاجة.
[16] ولهي: تحيّري من شدّة الوجد.
[17] صبابتي: شوقي.
[18] الرَوح: الفرح والراحة.
[19] غلّتي: عطشي الشديد.
[20] لوعتي: حرقة حزني وهواي ووجدي.
[21] كرْبتي: همّي وغمي.
[22] مناجاة المريدين.
[23] خلّتي: حاجتي وفقري.
[24] مناجاة المفتقرين.
[25] مناجاة العارفين.
[26] الخلاء: المكان الفارغ الذي ليس فيه أحد.
[27] الملاء: اجتماع الناس.
[28] جَنان: القلب.
[29] مناجاة الذاكرين.
[30] نفس المهموم، المحدّث القمي: 408.
[31] راجع الفصل الخاصّ بتراثه(عليه السلام).
[32] جهاد الإمام السجّاد: 224 ـ 225.
ماخوذ من الكتاب : اعلام الهداية

ارسال التعليق

You are replying to: .
captcha